أناركى هى
كلمة يونانية قديمة تعنى حرفيا لا حاكم أو لا سلطة و قد أستخدمت الكلمة
طوال قرون فى الكتابات الغربية لتشير إلى حالة بلد أو إقليم جغرافى حال
تفكك أو سقوط السلطة المركزية المسيطرة عليه مما يؤدى إلى صعود قوى مختلفة
تتصارع للحلول محلها محدثة حالة من فوضى الحرب الأهلية و من ثم أصبحت
الكلمة فى اللغات الأوروبية المختلفة مرادفة للفوضى.
فى
المقابل فإن الأناركية كنظرية و فكر سياسى و كحركة إجتماعية تبلورت لأول
مرة فى النصف الثانى للقرن التاسع عشر فى إطار نشأة الحركات العمالية و
الإشتراكية. و إتخذ بعض أوائل
مفكريها مسمى الأناركية بمعنى اللاسلطوية إذ دعوا إلى أن ينظم المجتمع
شؤونه ذاتيا دون تسلط لفرد أو جماعة على مقدرات و حياة غيرهم.
اللاسلطوية
تعنى الغياب التام للسلطة و ليس تفكيك السلطة المركزية لسلطات متناحرة
تحدث الفوضى فى المجتمع و هى تعنى إستبدال مؤسسات الدولة المركزية و
الهرمية بمؤسسات شعبية أفقية - أى لا يكون فيه تراتبية هرمية - و شبكية - أى لا مركزية ترتبط كل منها بالأخرى للتكامل و لإدارة الموارد المشتركة و إتخاذ القرار فيما يخصها.
على
المستوى النظرى ينشأ الإقتناع باللاسلطوية عن الإيمان بالحق الطبيعى لكل
إنسان فى أن يكون هو وحده سيد مصيره دون غيره من البشر؛ بمعنى ألا يمتلك
أى فرد أو جماعة من السلطة عليه ما يسمح لهم بتشكيل حياته رغم أنفه بما
يفرض عليه ظروفا لم يكن شريكا فى إختيارها.
من خلال
هذا المبدأ يمكن فهم موقف الأناركية الرافض للدولة كشكل من أشكال تنظيم
شؤون المجتمع يقوم على تركيز السلطة فى أيدى أقلية تشكل خياراتها الظروف
الحاكمة لمعيشة جميع أفراد المجتمع مما يعنى إستلاب حق الآخرين فى حرية
إختيار ما يحقق مصالحهم الحقيقية و أهم من ذلك ما يحفظ حقوقهم الأساسية
بدءا بالحق فى الحياة و حتى الحق فى السعى إلى السعادة. و
من خلال المبدأ ذاته يمكن فهم حقيقة أن الأناركية نظرية و حركة إشتراكية
فى الأساس و معادية للرأسمالية كنظام إقتصادى و إجتماعى يكون فيه لأقلية
أن تسيطر على موارد المجتمع و على رؤوس الأموال فيه و من ثم تحتكر إدارة
الإقتصاد بما يحقق مصالحها المتمثلة فى تحقيق أكبر ربحية ممكنة و مما يسلب
الغالبية العظمى من حق إدارة الإقتصاد بما يحافظ على حصولها على حاجاتها
الأساسية و حقوقها الإنسانية فى الغذاء و الكساء و المأوى و مما يحكم على
هذه الغالبية بدرجات متفاوتة من الفقر يحرم أفرادها من حقهم الطبيعى فى
تنمية قدراتهم إلى أقصى حد ممكن فيحرمهم و يحرم المجتمع كله من ثمار هذه
القدرات.
ترفض الأناركية أيضا كل أشكال السلطة الممارسة داخل المجتمع فى مظاهر التمييز على أساس الجنس و العنصر و الدين إلخ. و
ينبغى هنا توضيح أن الأناركية ترفض أن تمارس الدولة أو أى مؤسسة أى سلطة
باسم الدين و لكنها لا تعادى الدين فى ذاته لأن حرية الإعتقاد و حرية
ممارسة الشعائر الدينية تدخل جميعا فى إطار الحقوق الأساسية للفرد و
المجتمع. على الأساس نفسه ترفض
الأناركية، الفاشية القومية التى تسعى لتذويب الأقليات العرقية و قمع
الإختلاف الثقافى و لكنها لا ترفض أو تتدخل فى الإنتماءات القومية و مشاعر
الوطنية و الخصوصية الثقافية للجماعات البشرية.
البديل الذى يطرحه الأناركيون هو مجتمع من المنتجين. و يقصد بالمنتٍج كل فرد يبذل جهدا ذهنيا و بدنيا يترجم إلى قيمة إستعمالية مضافة لسلعة أو خدمة يستهلكها أفراد المجتمع. و
يسيطر هذا المجتمع على جميع الموارد و وسائل الإنتاج المتاحة و يدير عملية
الإنتاج فى المؤسسات الإنتاجية و الخدمية العاملون بها و تتخذ القرارات
الأساسية بها الجمعيات العمومية بينما ينتدب بالإنتخاب أعضاء لجان و مجالس
يؤدون وظائف محددة تكلفهم بها الجمعيات العمومية مع إمكان إستدعائهم بمعنى
إلغاء إنتدابهم فى أى وقت. و
بنفس نمط الإنتداب و التكليف و القابلية للإستدعاء تنتخب لجان و مجالس
لإتحادات عمالية تنسق العمل فى كل قطاع إنتاجى أو خدمى على مستوى الأقاليم
أو البلدان أو على أى مستوى آخر. و
يوجه عملية الإنتاج فى مجملها سائر المجتمع من خلال الطلب المباشر على
السلع و الخدمات و من خلال رقابته على جودة المقدم منها و سيطرته على
توجيه الموارد إلى المؤسسات المختلفة.
فى
المقابل يدير السكان فى مناطق سكنهم شؤونهم اليومية من خلال آليات مشابهة
تبدأ بالجمعيات العمومية للمجاورات السكنية و بالقرى الصغيرة و تتوسع
بمجالس إنتدابية للوحدات الأكبر فالأكبر.
هذا الطرح
فى خطوطه العامة يستلهم نماذجه من تجارب فعلية للإدارة الذاتية مارسها
العمال و السكان فى إطار الثورات الشعبية فى مختلف أنحاء العالم عبر
التاريخ الحديث كما يبنى على التجارب الناجحة لتعاونيات العمال و تعاونيات
العمال و المستهلكين القائمة اليوم فى بلدان مختلفة فى العالم. و
هو فى النهاية ليس برنامجا تفصيليا حيث أن تفاصيل الآليات التى يدار بها
المجتمع ذاتيا هى نفسها خاضعة لإختيار أفراد هذا المجتمع و ما يتوافقون
عليه، و يجتهد الأناركيون فى طرح تصوراتهم لمثل هذه الآليات لإثبات إمكان
وضع تصورات عملية و منطقية للكيفية التى يمكن بها للمجتمع أن يدير شؤونه
دون الحاجة لسلطة.
يؤمن
الأناركيون أن الوسائل لا تنفصل عن الأهداف التى تستخدم لتحقيقها و من ثم
فإن بناء المجتمع الأناركى لا يمكن أن يتم بإستخدام السلطة و لا يمكن فرضه
على المجتمع رغما عنه بأى سبيل، و لذلك يرفض الأناركيون السعى للإستيلاء
على السلطة سواء كان ذلك عن طريق صناديق الإنتخاب أو عن طريق العمل
الإنقلابى المسلح.
فى
المقابل يؤمن الأناركيون بأن كفاح الطبقات الكادحة من عمال و فلاحين و
مهمشين فى سبيل نيل حقوقهم هو المدرسة الحقيقية التى يتعلمون من خلالها
سبل التعاون الفعال لإدارة كفاحهم ذاتيا و بذلك يكون نضالهم هو النواة
الأولى لبناء المجتمع الأناركى فى قلب المجتمع الطبقى، و لذلك يسعى
الأناركيون إلى طرح البديل التحررى لإدارة النضالات اليومية لهذه الطبقات
و يدعمون مبادراتها الذاتية لخلق مؤسساتها النقابية و التعاونية. و
ينخرط الأناركيون بنشاط واضح فى كل مظاهر الإحتجاج السلمى الموجهة للدفاع
عن حقوق العمال أو المرأة أو الأقليات و الفئات المضطهدة فى المجتمع و
كذلك الموجهة ضد العولمة و ضد تغول الرأسمالية العالمية على البيئة و
تعريضها للجنس البشرى كله لكارثة بيئية حتمية إن إستمرت ظواهر الإحتباس
الحراى و التلوث البيئى فى التمدد دون مجابهة جادة.
فى
النهاية فإن الأناركية مقارنة بحجم إنتشارها المحدود تعتبر أكثر التيارات
السياسية تعرضا للهجوم و التشويه و يعد الإتهام بممارسة العنف أكثر
الإتهامات الكاذبة شيوعا عن الأناركيين رغم أن الحقيقة التاريخية تثبت
أنهم أقل التيارات السياسية ممارسة للعنف و بفارق كبير عن غيرهم. و
برغم أن الفئة الضئيلة من الأناركيين الذين آمنوا بأن أعمال العنف تصلح
سبيلا لحفز الجماهير على الثورة عاشت و مارست عنفها فى بداية القرن الماضى
ثم إختفت و لم يعد لها وجود بين تيارات الإناركية المعاصرة. و
لا يمكن تبرير حجم التشويه الذى تتعرض له الأناركية إلا بأنها كغيرها من
التيارات الإشتراكية المؤمنة بالثورة أى السعى للتغيير الجذرى للمجتمع
تمنح البشر الأمل فى أن بالإمكان بناء عالم أفضل و أنه ليس عليهم
الإستسلام لدعاوى ال5% من سكان
هذا الكوكب المسيطرون على مصائره بأن فوضى إستغلالهم و إستبدادهم و حروبهم
و الفقر الذى يفرضونه على الغالبية هى قدر محتوم لا سبيل للفكاك منه.